لزوم ما يلزم في حوكمة التشغيل

 

 

 

حمد الصبحي

 

الحديث عن حوكمة التشغيل في سلطنة عُمان، لم يعد موضوعًا إداريًا محدود الأثر، بل أصبح ضرورة وطنية تدخل في صميم التحول الاقتصادي الذي تقوده "رؤية عُمان 2040"، فالرؤية- بوصفها عقدًا مجتمعيًا وإطارًا استراتيجيًا- لا تبحث عن تحسينات تجميلية في سوق العمل، بل تسعى إلى إعادة بناء المنظومة نفسها على أسس أكثر عدالة وكفاءة وتنافسية. ومن هنا، تصبح الحوكمة عنصرًا تأسيسيًا في تحقيق توازنٍ طال انتظاره بين متطلبات الاقتصاد، واحتياجات سوق العمل، وتطلعات القوى البشرية الوطنية.

إن سوق العمل العماني مرَّ بتحولات متسارعة خلال العقود الماضية؛ توسعٌ في المخرجات التعليمية، نموٌّ في الأنشطة الاقتصادية، وتغير أولويات القطاع الخاص. وفي ظل هذه التحولات، كانت مساحة الارتجال في القرارات التشغيلية أكبر من مساحة التخطيط، وكانت الحلول الجزئية تعلو على الحلول الجذرية، الأمر الذي خلق اختلالات هيكلية يعرفها المتخصصون جيدًا: فجوة بين المخرجات والوظائف، اعتماد مفرط على العمل الوافد في بعض القطاعات، تفاوت في جودة بيئات العمل، وتذبذب في السياسات. وهنا، تظهر الحوكمة كمسار تصحيحي لا يهدف إلى السيطرة؛ بل إلى تنظيم الإيقاع وضبط المسار وإنتاج قرارات قابلة للقياس وللمساءلة.

الحوكمة- بمفهومها الحديث- لا تكتفي بوضع القواعد، بل تضمن الالتزام بها، وتحوّل المعلومات إلى بيانات، والبيانات إلى سياسات، والسياسات إلى نتائج ملموسة يشعر بها المواطن في واقعه المهني والاقتصادي. إنها إطار يُنهي عهد القرارات المقطعية، ويقدم بدلاً منه منظومة تُدار بالأدلة، وتُراقَب بالمؤشرات، وتُقوَّم بالنتائج. وبهذا، تصبح منظومة التشغيل أكثر قدرة على التوقع، وأقل تعرضًا للتقلبات، وأكثر ثقة في نظر المستثمرين والباحثين عن عمل على حد سواء.

لقد راهنت «رؤية 2040» على الشراكة بين القطاعين العام والخاص، ولم تعد الدولة هي المشغّل الأول؛ بل المنظّم الأول. وهذا التحول- بقدر ما هو مهم- يحتاج إلى حوكمة صارمة تضع قواعد واضحة لدور كل طرف. فالقطاع الخاص يحتاج إلى مرجعية مستقرة وواضحة تشجعه على الاستثمار وتوسيع قاعدة الوظائف، والقوى العاملة تحتاج إلى ضمانات تحمي حقوقها وتمنحها بيئة عادلة ومحفزة، والجهات الحكومية تحتاج إلى أدوات تمكّنها من الرقابة والمتابعة والتحسين المستمر. من دون هذه العناصر الثلاثة، تفقد الشراكة توازنها، وتفقد السوق ثقتها، ويفقد الشباب يقينه بمستقبله المهني.

غير أن التحدي الأكبر لا يكمن في بناء الأنظمة، بل في إعادة بناء الثقافة المؤسسية. فالحوكمة ليست نصوصًا تُكتب بقدر ما هي سلوك يُمارس. إنها انتقال من منطق المجاملة إلى منطق الكفاءة، ومن إدارة المصالح الضيقة إلى إدارة المصلحة الوطنية، ومن منطق رد الفعل إلى منطق الاستشراف. فإذا لم تصبح الحوكمة جزءًا من الوعي اليومي للمؤسسات- العامة والخاصة- فسوف تبقى القرارات متقدمة لغويًا ومتأخرة فعليًا، وستبقى الطموحات أسرع من التنفيذ.

إنَّ مستقبل التشغيل في عُمان لا يُقاس بعدد الفرص فقط؛ بل بجودتها واستدامتها وارتباطها بالقطاعات الواعدة التي تراهن عليها الرؤية: الاقتصاد الرقمي، اللوجستيات، السياحة، الصناعة المتقدمة، والطاقة. وهذه القطاعات، بطبيعتها التنافسية، لا تقبل الفوضى ولا العشوائية، وتحتاج إلى سوق عمل منضبط بعقد حوكمة واضح يُحفّز الإنتاجية، ويكافئ الجدارة، ويحتضن المواهب الوطنية بوصفها رأس المال الأول لهذا الوطن.

ولذلك، فإن الحوكمة ليست محطة أخيرة؛ بل بداية الطريق. إنها الخطوة الأولى نحو سوق عمل يسير بمعايير لا بأمزجة، وبمؤشرات لا بوعود، وبثقة لا بتخمين. وحين تكتمل هذه المنظومة، ستصبح الوظيفة قيمة مضافة للاقتصاد، لا عبئًا عليه، وسنرى سوقًا يليق برؤية 2040 وطموح هذا الجيل الذي يملك الشغف والقدرة، ولا ينتظر سوى منظومة عادلة تفتح له الطريق.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة